الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} يمضي السياق في السورة، يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر؛ ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر، مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر؛ ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره.. الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم؛ كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق. ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة- وقبل هذه الغزوة- من القلة والضعف وقلة المنعة، حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس؛ وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله.. وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبيل الهجرة ويتآمرون. وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب- إن كان هذا هو الحق من عند الله- بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به! ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ويجمعوا لحرب رسول الله؛ ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا، والحشر إلى جهنم في الآخرة، والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير. وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين: أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات. أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم؛ وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد.. ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين؛ وحتى تتقرر الألوهية في الأرض لله وحده- فيكون الدين كله لله- فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله، والله بما يعملون بصير. وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده، وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض، واصل المسلمون جهادهم، مستيقنين أن الله مولاهم، ونعم المولى ونعم النصير.. {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين}.. إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف. وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر.. ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق. وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق؛ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة. . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم! لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا؛ ليتفرق دمه في القبائل؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر! قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجريري، عن مقسم مولى ابن عباس، أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك}.. قال: «تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخروجه. فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك؛ فبات عليّ- رضي الله عنه- على فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما أصبحوا ثاروا إليه؛ فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره؛ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.. فمكث فيه ثلاث ليال». {ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}.. والصورة التي يرسمها قوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله}.. صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون! إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟ والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير؛ فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور. ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم؛ ودعاويهم ومفترياتهم. حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا! مع وصف هذا القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إن هذا إلا أساطير الأولين}.. ذكر ابن كثير في التفسير- نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم- أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال: «فإنه- لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار؛ ولما قدم وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن. فكان- عليه الصلاة والسلام- إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك؛ ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففعل ذلك والحمد لله. وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه.. كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير قال: «قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما فأمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:» إنه كان يقول في كتاب الله عزو جل ما يقول «. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:» اللهم أغن المقداد من فضلك «. فقال المقداد: هذا الذي أردت!» قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين}.. ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن: إنه أساطير الأولين: {وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكره وأصيلاً} وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن، وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب؛ ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك. وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات. وهم يعلمون أنها مناورات! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد! لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحةَ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة، والخروج من حاكمية العباد جملة؛ والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته. ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله!. . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها؛ وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد- صلى الله عليه وسلم- ويخضعون لقيادته وسلطانه؛ وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة عليها هذه القيادة الجديدة.. كان هذا كله مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وكان هذا واقعاً يشهده الملأ من قريش؛ ويحسون خطره على كيانهم، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم. لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون- لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم؛ ويؤدون بعض الشعائر التعبدية، بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل؛ وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه. وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة.. ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية؛ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة؛ كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها؛ وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين.. فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل. ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام.. وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام، ومن هذا القرآن.. إنه لم يزعجهم من قبل أن «الحنفاء» اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم؛ واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده، واجتنبوا عبادة الأصنام أصلا.. فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء؛ لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية! إن هذا ليس هو الإسلام- كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين، ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين!- إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه؛ والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع.. وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتى الأساليب.. ومنها هذا الأسلوب.. أسلوب الادعاء على القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين! وأنهم- لو شاءوا- قالوا مثله! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة.. وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون! والأساطير واحدتها أسطورة. وهي الحكاية المتلبسة- غالباً- بالتصورات الخرافية عن الآلهة، وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً. وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين؛ وقصص الخوارق والمعجزات؛ وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين.. إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات؛ فيقولون للجماهير المستغفلة: إنها أساطير الأولين؛ اكتتبها محمد ممن يجمعونها؛ وجاء يتلوها عليكم، زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله.. وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد انتهائه؛ أو يجلس مجلساً آخر يجاوره؛ ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس؛ ليقول للناس: إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد. وها أناذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كا يدعي! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير! ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس. وبخاصة في أول الأمر، قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص، وبين القرآن الكريم. لندرك لم نادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث. ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفر القليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى؛ ولم يقبل فيه فدية كالآخرين. على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً؛ وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين؛ وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله؛ وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات، فلم يقف له منها شيء؛ وراح الملأ من قريش- في ذعر- يقولون: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون!} ووجد كبراؤهم، من أمثال أبي سفيان، وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن؛ ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في خفية عن الآخرين؛ حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألا يعودوا إليها، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين! على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه، لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون.. لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر.. لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن. فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون، وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم... ويفهمون أنهم مسلمون، ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين! لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه. . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها.. حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم، إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم، وقيمهم وموازينهم! ثم قالوا لهم: إن هذا الدين محترم، وإن هذا القرآن مصون. وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين؛ ويترنم به المترنمون، ويرتله المرتلون.. فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل؟! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم، وأما أنظمتكم وأوضاعكم، وأما شرائعكم وقوانينكم، وأما قيمكم وموازينكم، فإن هناك قرآناً آخر هو المرجع فيها كلها، فإليه ترجعون! إنها مناورة النضر بن الحارث، ولكن في صورة متطورة معقدة، تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة.. ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين، على مدار القرون! ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه- على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه- ما يزال يغلب!.. إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين؛ وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين! إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية؛ بحيث يذيعه- على السواء- اليهود، ويذيعه الصليبيون، ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين! وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس «المسلمين»!- إلى مجرد أنغام وتراتيل؛ أو مجرد تمائم وتعاويذ! وبعد أن أبعدوه- حتى في خاطر الناس.. المسلمين!.. من أن يكون مصدر التوجيه للحياة؛ وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون.. ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد؛ وسيظل يعمل؛ وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب، وتتخذه وحده مصدر التوجيه؛ وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين، من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد.. وما كان مرة لا بد أن سيكون.. ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه؛ وإذا بهم يتمنون على الله- إن كان هذا هو الحق من عنده- أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو أن يأتيهم بعذاب أليم. بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه: {وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم}.. وهو دعاء غريب؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقاً! إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة. ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه.. وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس! ويعقب السياق على هذا العناد، وعلى هذا الادعاء، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه- إن كان هذا هو الحق من عنده- وإنه للحق.. مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم. لأن رسول- صلى الله عليه وسلم- بينهم، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى. والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم. كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت. فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية. فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.. إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام- وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه! إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه- ولو بعد حين- وما دام الرسول- صلى الله عليه وسلم- بينهم، يدعوهم، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون. والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.. فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام. وما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون}.. إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام.. فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع. إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه. إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف. إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله. . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم- عليه السلام- فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة. والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم! إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم. فما هذه بصلاة! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيفاً بالأيدي، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لهيبة الله. عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون. وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها «بلاد المسلمين»! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة. بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة: صورة ألوهية العبيد في الأرض، وحاكميتهم في حياة الناس.. وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها، وفرع منها! {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.. وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة. فأما العذاب الذي طلبوه- عذاب الاستئصال المعروف- فهو مؤجل عنهم، رحمة من الله بهم، وإكراماً لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ومقامه فيهم، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه. والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله.. هكذا فعلوا يوم بدر، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة.. وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية. والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ ثم يغلبون؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً، فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون}.. روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم- أي جيشهم المهزوم- إلى مكة؛ ورجع أبو سفيان بِعيره، مشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم! فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا. ففعلوا. فقال: ففيهم- كما ذكر ابن عباس- أنزل الله عز وجل: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم...}. وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين. . إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم، في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين. وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين.. إن المعركة لن تكف. وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة. ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن. وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت. والله- سبحانه- ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة.. إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا. وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى.. ذلك.. {ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً؛ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}.. فكيف؟ إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة.. وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل- حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء!- ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم.. وتلك غاية الخسران.. والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار! {فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم}.. وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعاً أعمق في الحس.. وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير.. وعندما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم، عن مصير الكفر المتعاون، ونهاية الخبث المتراكم، يتجه بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لينذر الكافرين إنذاره الأخير، ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة، وحتى يكون الدين كله لله، ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها، فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد، والله وليها الناصر المعين: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير}.. قل للذين كفروا- في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم، وحسرتهم على ما أنفقوا، وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يركم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم. {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}.. فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر، ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله، ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله.. والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله، ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف. فالإسلام يجب ما قبله، ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه.. فأما إن هم عادوا- بعد هذا البيان- إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف.. ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين؛ وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين... وهذه السنة ماضية لا تتخلف.. وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق! بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير}.. وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان، لا في ذلك الزمان.. ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة، وبقوانين الحرب والسلام، ليست هي النصوص النهائية، فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة؛ ومع أن الإسلام- كما قلنا في تقديم السورة- حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة، وأنه حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائر مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية.. ومع هذا فإن قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.. يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم.. ولقد جاء الإسلام- كما سبق في التعريف بالسورة- ليكون إعلاناً عاماً لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده- سبحانه- وربوبيته للعالمين.. وأن معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور.. الخ. ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين: أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال.. وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام، وتنفذه في عالم الواقع، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه. وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر- في صورة من الصور- وذلك لضمان الهدف الأَول، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا لله وحده- فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله- وليس هو مجرد الاعتقاد.. ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول، على حين أن الله سبحانه يقول: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام- وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب: «الجهاد في سبيل الله» للأستاذ أبي الأعلى المودودي، ما يكفي للبيان الواضح.. إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين! إن الذي يعنيه هذا النص: {ويكون الدين كله لله}.. هو إزالة الحواجز المادية، المتمثلة في سلطان الطواغيت، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد، فلا يكون هناك- حينئذ- سلطان في الأرض لغير الله، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله.. فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى، ويفتن بها الذين يتحررون فعلاً من كل سلطان إلا سلطان الله.. إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد. ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله، ولن يتحرر «الإنسان» في «الأرض»، إلا حين يكون الدين كله لله، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه. ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة: {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.. فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره، وتركوا هذا لله: {فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير}.. ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله: {وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم. نعم المولى ونعم النصير}.. هذه تكاليف هذا الدين؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس.. إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه! إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان. . وهو منهج حركي واقعي، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة.. يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان.. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله.. والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد- كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة- أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه. هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين.. لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون.. ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من «المسلمين»، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين! .. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع.. فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: {.. قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير} ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه: {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح؛ وتبين منها أنه جهاد لله، وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة.. ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل، فردت إلى الله والرسول، وجرّد منها المجاهدون لتخلص نيتهم وحركتهم لله.. مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له. فهناك غنائم وهناك محاربون. وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم: هم يتطوعون للجهاد، وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة؛ وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون.. ثم هم يغنمون من المعركة غنائم. يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد.. ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله.. وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم- وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله- فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية، ومشاعرهم البشرية، دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه، والتنازع فيه، بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة. إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر؛ ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل، الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر؛ وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع، من أجل تلك المغانم! {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. والله على كل شيء قدير}.. وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل.. أولاً: حول مدلول «الغنائم» ومدلول «الأنفال» هل هما شيء واحد، أم هما شيئان مختلفان؟ وثانياً: حول هذا الخمس- الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين- كيف يقسم؟ وثالثاً: حول خمس الخمس الذي لله. أهو الخمس الذي لرسول الله، أم هو خمس مستقل؟. . ورابعاً: حول خمس الخمس الذي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده؟ وخامساً: حول خمس الخمس الذي لأولي القربى، أهو باق في قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بني هاشم وبني عبد المطلب، كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه؟ وسادساً: أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس. أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه من بعده؟.. وخلافات أخرى فرعية. ونحن- على طريقتنا في هذه الظلال- لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة.. هذا بصفة عامة.. وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعاً إسلامياً يواجهنا اليوم أصلاً. فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه.. إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان. والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً. هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين؛ وليس هناك- في البدء- قضية أخرى سواها.. ليس هناك قضية غنائم، لأنه ليس هناك قضية جهاد! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية، وذلك لسبب بسيط: هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى!!! والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع!.. إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين. هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلاً! بدلاً من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه: دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد- كما دخل فيه الناس أول مرة- كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية. . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق.. ثم يحتاج حينئذ- وحينئذ فقط- إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره.. وحينئذ- وحينئذ فقط- يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية- في الداخل وفي الخارج- وحينئذ- وحينئذ فقط- تكون لهذا الاجتهاد قيمته، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته! من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله؛ وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام! وحسبنا- في هذه الظلال- أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي، والمنهج القرآني التربوي. فهذا هو العنصر الثابت، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم.. وكل ما عداه تبع له وقائم عليه: إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل}.. يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله، من بعده في هذه المصارف: «لله وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل».. بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم... وفي هذا كفاية.. أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير: {إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير}.. إن للإيمان أمارات تدل عليه؛ والله- سبحانه- يعلق الاعتراف لأهل بدر- وهم أهل بدر- بأنهم آمنوا بالله، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان. وهكذا نجد مدلول الإيمان- في القرآن- واضحاً جازماً لا تميع فيه، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية، كما دخل الناس- بسبب الفرق المذهبية والسياسية- في الاتهامات ودفع الاتهامات؛ وصار النبز بالكفر، ودفع هذا النبز، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة. . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية.. أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو.. «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل». ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة.. والكفر: رفض ما شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شرع الله.. في الصغير وفي الكبير سواء.. أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة.. وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات.. وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}.. ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله. لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة؛ وردها إلى الله والرسول- في أول السورة- ليخلص الأمر كله لله والرسول؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض؛ وليسلموا أمرهم كله- أوله وآخره- لله ربهم وللرسول قائدهم؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله، وتحت راية الله، طاعة لله؛ يحكمونه في أرواحهم، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض.. فهذا هو الإيمان.. كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله: {يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله.. إن كنتم مؤمنين..} حتى إذا استسلموا لأمر الله، وارتضوا حكمه ذاك، فاستقر فيهم مدلول الإيمان.. عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقي الخمس على الأصل- لله والرسول- يتصرف فيه رسول صلى الله عليه وسلم، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله.. وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان.. هو شرط الإيمان، وهو مقتضى الإيمان. {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}.. وهكذا تتواتر النصوص، لتقرر أصلاً واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه. ثم نقف أمام وصف الله- سبحانه- لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: {عبدنا} في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء، وأمر الخمس المتبقي أخيراً: {إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}.. إنه وصف موحٍ.. إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التبليغ عن الله، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله. وإنه لكذلك في واقع الحياة! إنه لكذلك مقام كريم.. أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان.. إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه. إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى. يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع «الإنسان» من بين سائر الأنواع؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا- كما خلقهم الله- في أحسن تقويم. كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها.. يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر، مشوبة بحب الاستعلاء، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى! ويقعون في عبودية «الحتميات» التي يقال لهم: إنه لا قبل لهم بها، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها.. «حتمية التاريخ».. و«حتمية الاقتصاد».. و«حتمية التطور» وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين «الإنسان» في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه، ولا أن يناقش- في عبوديته البائسة الذليلة- هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة! ثم نقف كذلك أمام وصف الله- سبحانه- ليوم بدر بأنه يوم الفرقان: {إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}.. لقد كانت غزوة بدر- التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده- فرقاناً. . فرقاناً بين الحق والباطل- كما يقول المفسرون إجمالاً- وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأَدق وأعمق كثيراً.. كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله- سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير؛ وفي عبودية الكون كله: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!.. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان! لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات.. وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك.. فرقاناً بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات... وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه.. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.. وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصوراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنساني، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة.. بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير «الإنسان» في «الأرض» بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته.. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً.. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله. وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية.. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام.. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء.. هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. إنما صار- شيئاً فشيئاً- ملكاً للبشرية كلها؛ تأثرت به سواء في دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته!.. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائداً عندهم، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه- بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام!- قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا!.. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله- منذ وقعة بدر- متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء. وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة. فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: {غر هؤلاء دينهم}.. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو- وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة- لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان. وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر. ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان {غير ذات الشوكة} وأن يلاقوا نفير أبي جهل {ذات الشوكة} وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقال لهم الله- سبحانه- إنه صنع هذا: {ليحق الحق ويبطل الباطل} وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة.. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل- في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان «النظري» للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد «النظري» بأن هذا حق وهذا باطل.. إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس. إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد «نظرية» للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي! ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته- سبحانه- من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من بيته بالحق؛ ومن وراء إفلات القافلة {غير ذات الشوكة} ولقاء الفئة ذات الشوكة.. ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وأنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة.. {والله على كل شيء قدير}.. وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء.. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير. وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله- سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم. ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم. إذ يريكهم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإلى الله ترجع الأمور}. إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها.. إن يد الله تكاد ترى، وهي توقف هؤلاء هنا، وهؤلاء هناك، والقافلة من بعيد! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر، وفي إغراء كل منهما بالآخر.. وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية، وبهذه الحركة المرئية، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير! وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها.. ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما.. أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين. ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه. وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده. حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره. {إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً}.. إن وراء هذا التلاقي على غير موعد- بهذه الدقة وبهذا الضبط- لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به! أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه: {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة}.. والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر، كما يعبر به عن الكفر. وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان.. وهذا المدلول الثاني أظهر هنا، وذلك كا قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟} فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان. هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن. ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر- كما قال الله سبحانه- كان «يوم الفرقان» وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل- كما ذكرنا منذ قليل- ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة- يكفر عن بينه فيهلك عن بينة- ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة. إن الموقعة- بظروفها التي صاحبتها- تحمل بينة لا تجحد، وتدل دلالة لا تنكر، على تدبير وراء تدبير البشر، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر.. إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا، وأنه لو كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم. ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال: «فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله- كما يزعم محمد- فما لأحد بالله من طاقة»! ولقد علموا- لو كان العلم يجدي- أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين، وأنه ما لأحد بالله من طاقة.. فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة! هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}.. ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر: إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع- بعد استعلائه في عالم الضمائر- إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك- أي الكفر- شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى؛ كما أن الذي يريد أن يحيا- أي يؤمن- لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله، ويخذل الطغاة. وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع- في التعريف بسورة الأنفال- من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله.. فهذا مما يعين على جلاء الحق: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}.. كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى، في هذه السورة: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...} فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب. لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير «الإنسان» في «الأرض» كما أسلفنا. والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو: {وإن الله لسميع عليم}. فهو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر، وهو السميع العليم.. وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض؛ ويكشف التدبير الخفي اللطيف: {إذ يريكهم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر. ولكن الله سلم. إنه عليم بذات الصدور}.. ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً. فلقد علم- سبحانه- أنه لو أراهم له كثيراً، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم؛ وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم: فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً! {ولكن الله سلم. إنه عليم بذات الصدور}.. ولقد كان- سبحانه- يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً، ولم يرهم إياه كثيراً.. والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليلاً.. وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة- من وراء الظاهر الخادع- هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم، من ضعف عن المواجهة؛ وتنازع على الالتحام أو الإحجام. وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور. وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به؛ عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها. {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً، ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإلى الله ترجع الأمور}.. ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة.. والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً- لأنهم يرونهم بعين الحقيقة!- والمشركون يرونهم قليلاً- وهم يرونهم بعين الظاهر- ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي؛ ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه. {وإلى الله ترجع الأمور}.. وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء.. فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه. ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره. وإذ إن الأمر كذلك.. التدبير تدبير الله. والنصر من عند الله. والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر. والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.. فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا؛ وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة؛ وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان؛ وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة؛ وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل؛ وليحترزوا من خداع الشيطان، الذي أهلك أولئك الكفار؛ وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا. واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله؛ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط. وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إني برئ منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب. إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض، غر هؤلاء دينهم! ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.. وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات، وقواعد وتوجيهات، وصور ومشاهد؛ وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر.. مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير؛ ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد! إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا- في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة- وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء، وإلى التزويد بزاد النصر؛ والتأهب بأهبته. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط}.. فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي.. فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟! وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي. ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قولهم: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل، وهي تواجه جالوت وجنوده: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامناً وانصرنا على القوم الكافرين} ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: {وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير. فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين} ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة؛ فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً. وقد حكى الله- فيما بعد- عن العصبة التي أصابها القرح في «أحد»؛ فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها: {الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل} إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه.. وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي.. كما أنه توكيد لهذا الواجب- واجب ذكر الله- في أحرج الساعات وأشد المواقف.. وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛ يحققها هذا التعليم الرباني. وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء؛ فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}... فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم- مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء!. . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة.. إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها. وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا.. والمسافة كبيرة كبيرة.. وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة.. أية معركة.. في ميدان النفس أم في ميدان القتال. {واصبروا، إن الله مع الصابرين}.. وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح.. ويبقى التعليم الأخير: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط}.. يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها.. والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله؛ تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر، وتقرير عبودية العباد لله وحده. وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية- بغير إذن الله وشرعه- وتخرج لإعلان تحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل عبودية لغير الله، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته. وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر. وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد؛ وفي إقامة منهجه في الحياة؛ وفي إعلاء كلمته في الأرض؛ وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه.. حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله.. ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة؛ يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها؛ كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله: وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة.. وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله. والله بما يعملون محيط}.. والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل، وقد جاءه رسول أبي سفيان- بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين- يطلب إليه الرجوع بالنفير، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه. وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق. فقال أبو جهل: «لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم ثلاثاً، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبداً».. فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال: «واقوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع، لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغي منقصة وشؤم، إن أصاب محمد النفير ذللنا».. وصحت فراسة أبي سفيان، وأصاب محمد- صلى الله عليه وسلم- النفير؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم: {والله بما يعملون محيط}.. لا يفوته منهم شيء، لا يعجزه من قوتهم شيء، وهو محيط بهم وبما يعملون. ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب}.. ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ما رواه مالك في الموطأ: حدثنا أحمد بن الفرج، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، قال: حدثنا مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما رئي إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك ما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر!» قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: «أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة». وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وهو ضعيف الحديث، والخبر مرسل. فأما سائر الآثار فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج. وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق. وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير. وعن الحسن وعن محمد بن كعب. وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري: * حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}.. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين. وأقبل جبير إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: {إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب} وذلك حين رأى الملائكة. *حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان. عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر- يعني من الحرب- فكاد ذلك أن يثنيهم. فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعاً. * حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} إلى قوله: {شديد العقاب} قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة، وقال: {إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله}.. وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم، وتبرأ منهم عند ذلك. ونحن- على منهجنا في هذه الظلال- لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر. فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته. ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض.. وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم؛ وأنه بعد ذلك- لما تراءى الجمعان أي رأى أحدهما الآخر- {نكص على عقبيهِ وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب}.. فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، ولم يوف بعهده معهم.. ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك. الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم. والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث.. فإلى هنا ينتهي اجتهادنا. ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلاً معيناً ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم. وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}.. أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب، فأنتم أعز نفراً وأكثر نفيراً وأعظم بأساً، وإني مع هذا- أو والحال أني- جار لكم. قال البيضاوي في تفسيره: وأوهمهم أن اتباعهم إياه، فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم، حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين «. {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه}.. أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر، وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه، نكص: أي رجع القهقرى، وتولى إلى الوراء، وهو جهة العقبين (أي مؤخري الرجلين) وأخطأ من قال من المفسرين: إن المراد بالترائي التلاقي- والمراد: أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء؛ وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم، وتركه إياهم وشأنهم وهو {وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة {والله شديد العقاب} يجوز أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً».. ... «أقول: معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم؛ كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم...» وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين؛ وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}- وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين.. هو منهج تلك المدرسة بجملتها.. ومثله تفسير «الطير الأبابيل» بأنها ميكروبات الجدري! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم. . هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية؛ حيث لا ضرورة لهذا التأويل، لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها.. وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة.. وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً.. وبعد، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، ويشجعهم على الخروج، ثم يتركهم لمصيرهم البائس... كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون؛ وهم يرونها تواجه جحافل المشركين، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة؛ ويرون- بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة- أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة، مخدوعين بدينهم، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم}.. والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل: إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة- ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم- خرجوا مع النفير مزعزعين، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة! والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ فهم يرون ظواهر الأمور، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها؛ ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة، والثقة في الله، والتوكل عليه، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية.. فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها! إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان. ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر.. فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه؛ والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من «الواقع» الحقيقي! الواقع الذي يشمل جميع القوى، ويوازن بينها موازنة صحيحة: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.. هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه! وهذا ما يرجح الكفة، ويقرر النتيجة، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان. وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، عن العصبة المسلمة يوم بدر: {غر هؤلاء دينهم}.. هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه. إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة، وللأخطار الواضحة. . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور- كما يسمونه- وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة!.. إنهم يحسبون الحياة كلها- بما فيها الدين والعقيدة- صفقة في سوق التجارة. إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها؛ فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى!.. إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان.. إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً؛ فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلب، أو الشهادة والجنة.. ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف؛ فهناك الله.. وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض! والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، وأن ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله، وأن تلقي بالها دائماً إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين. {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.. .. وصدق الله العظيم.. وأخيراً يعرض السياق القرآني مشهداً من مشاهد التدخل الإلهي في المعركة، والملأ الأعلى من الملائكة- بأمر الله وإذنه- يشارك في أخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب؛ والملائكة يقبضون أرواحهم في صورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهيناً- جزاء على البطر والاستكبار- ويذكرونهم في أشد اللحظات ضيقاً وحرجاً بسوء أعمالهم وبسوء مآلهم، جزاء وفاقاً لا يظلمهم الله فيه شيئاً.. ويقرر السياق في إثر عرض هذا المشهد أن أخذ الكفار بتكذيبهم سنة ماضية: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم} {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وأنه كذلك أخذ فرعون وملأه، وكذلك يأخذ كل من يفعل فعله ويشرك شركه: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوي شديد العقاب. ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله سميع عليم. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأغرقنا آل فرعون. وكل كانوا ظالمين}. والآيتان الأوليان في هذا المقطع: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد}.. قد تعنيان حال المشركين يوم بدر؛ والملائكة تشترك في المعركة- كما قال لهم الله سبحانه: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} وإن كنا- كما قلنا عند استعراض هذا النص في الجزء التاسع- لا ندري كيف تضرب الملائكة فوق الأعناق وكل بنان. ولكن جهلنا بالكيفية لا يدعونا إلى تأويل هذا النص عن مدلوله الظاهر؛ وهو أن هناك أمراً من الله للملائكة بالضرب، وأن الملائكة {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} وتكون هاتان الآيتان هنا تذكيراً بما كان يوم بدر؛ وتكملة لحكاية فعل الملائكة فيه بالذين كفروا.. كما أن هاتين الآيتين قد تعنيان حالة دائمة كلما توفت الملائكة الذين كفروا.. في يوم بدر وفي غيره.. ويكون قوله تعالى: {ولو ترى}.. موجهاً توجيه الخطاب لكل من يرى، كما يكثر مثل هذا الأسلوب في التوجيه إلى المشاهد البارزة التي من شأنها أن يتوجه إليها كل من يرى.. وسواء كان هذا أو ذاك. فالتعبير القرآني يرسم صورة منكرة للذين كفروا، والملائكة تستل منهم أرواحهم في مشهد مهين؛ يضيف المهانة والخزي، إلى العذاب والموت: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}.. ثم يتحول السياق من صيغة الخبر إلى صيغة الخطاب: {وذوقوا عذاب الحريق}. ليرد المشهد حاضراً كأنه اللحظة مشهود؛ وكأنما جهنم بنارها وحريقها في المشهد وهم يدفعون إليها دفعاً مع التأنيب والتهديد: {ذلك بما قدمت أيديكم}.. وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً، تستحقونه بما قدمت أيديكم: {وأن الله ليس بظلام للعبيد}.. وهذا النص- بما يعرضه من مشهد {عذاب الحريق}- يثير في النفس سؤالاً: ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم- كأنه واقع بهم- بعد البعث والحساب؟ أم إنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم؟.. وكلاهما جائز، لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني.. ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير.. فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه. وهو واقع ماله من دافع. أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب. وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة، مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد.. إن أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب، سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل؛ فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم؛ كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوي شديد العقاب}... إن الله- سبحانه- لا يكل الناس إلى فلتات عابرة، ولا إلى جزاف لا ضابط له.. إنما هي سنته يمضي بها قدره.. وما أصاب المشركين في يوم بدر، هو ما يصيب المشركين في كل وقت؛ وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم: {كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم}. ولم يعجزوه- سبحانه- ولم يتخلف عنهم عقابه: {إن الله قوي شديد العقاب}.. ولقد آتاهم الله من نعمته، ورزقهم من فضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها.. وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً، لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ ولكنهم كفروا ولم يشكروا؛ وطغوا وبغوا بما أُعطوا، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة.. وجاءتهم آيات الله فكفروا بها.. وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها.. وعندئذ غير الله النعمة، وأخذهم بالعذاب، ودمر عليهم تدميراً: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وأن الله سميع عليم. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم. كذبوا بآيات ربهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأغرقنا آل فرعون. وكل كانوا ظالمين}.. لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته. ولم يهلكهم قبلها سبحانه- مع أنهم كانوا كافرين- لأن هذه سنته ورحمته: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم.. بأنهم {كانوا ظالمين}.. مستخدماً لفظ «الظلم» بمعنى «الكفر» أو «الشرك» وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن.. ولا بد أن نقف قليلاً عند نص هذه الآية: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. إنه، من جانب، يقرر عدل الله في معاملة العباد؛ فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها.. ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم، حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله؛ ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم.. ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة- تقابل التكريم العظيم- على هذا الكائن. فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ويملك أن يزاد عليها، إذا هو عرف فشكر؛ كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه. وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانباً من جوانب «التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان»؛ وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود؛ وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه.. ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله؛ وتكريمه بهذا التقدير؛ كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله،؛ فيبدوا عنصراً إيجابياً في صياغة هذا المصير- بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه- وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية، التي تصوره عنصراً سلبياً إزاء الحتميات الجبارة. حتمية الاقتصاد، وحتمية التاريخ، وحتمية التطور... إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول! كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه؛ وتصور عدل الله المطلق، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره، ولا يظلم فيها عبد من عبيده: {وأن الله ليس بظلام للعبيد}.. {فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين}.. {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. .. والحمد لله رب العالمين..
|